أول من بدأ بجلب الأتراك كان المعتصم؛ وذلك لأنهم لم يفسدوا بعد بالترفه، ويمكن تدريبهم عسكريا فيصبحوا من الجند، وكثروا حتى أصبح وجودهم مزعجا فبنيت من أجلهم سامرا، ثم أصبح منهم القادة البارزون كالأفشين وبغا الكبير ووصيف، وأصبح نفوذهم وتنفذهم كبيرا بسبب كثرتهم وبسبب قوة إدارتهم، وبسبب ترك كثير من الأمور إليهم أصلا، فتآمروا مع المنتصر لقتل أبيه المتوكل، ثم كان لهم التنفذ في تعيين المستعين بعد خلع المنتصر، ثم قاموا مع المعتز ضد المستعين، فأصبح الخلفاء كالصورة الظاهرة، أو حتى أحيانا كالألعوبة وهم المتنفذون الحقيقيون، فأصبحت لهم الإقطاعات والأموال، وظل أمرهم على ذلك قرابة المائة سنة.


كانت البداية في أن بعض قواد الأتراك من المشغبين قد جاؤوا إلى المستعين وسألوه العفو والصفح عنهم ففعل، فطلبوا منه أن يرجع معهم إلى سامرا التي خرج منها إلى بغداد؛ بسبب تنكر بعض هؤلاء القادة الأتراك له، فلم يقبل وبقي في بغداد، وكان محمد بن عبدالله بن طاهر قد أهان أحد القادة الأتراك، فزاد غضبهم، فلما رجعوا إلى سامرا أظهروا الشغب وفتحوا السجون وأخرجوا من فيها، ومنهم المعتز بن المتوكل وأخوه المؤيد الذين كان المستعين قد خلعهما من ولاية العهد، فبايعوا المعتز وأخذوا الأموال من بيت المال، وقوي أمره، وبايعه أهل سامرا، والمستعين في بغداد حصن بغداد خوفا من المعتز، ثم إن المعتز عقد لأخيه أبي أحمد بن المتوكل، وهو الموفق، لسبع بقين من المحرم، على حرب المستعين، ومحمد بن عبد الله بن طاهر وجرى القتال بينهم وطالت الحرب بينهما حتى اضطر محمد بن عبدالله بن طاهر إلى أن يقنع المستعين بخلع نفسه ويشترط شروطا، فرضي بذلك فاستسلم وكتب شروطه وبايع للمعتز وبايعت بغداد، وانتقل المستعين إلى واسط بعد أن خلع نفسه، ثم أرسل المعتز إليه من قتله في شوال من نفس العام، فكانت مدة خلافته أربع سنين وثلاثة أشهر وأيام.


هو إسماعيل بن يوسف بن إبراهيم بن موسى بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب الحسني من بيت خرج منهم جماعة على الخلفاء بالحجاز والعراق والمغرب، عرف بالسفاك، خرج إسماعيل سنة إحدى وخمسين ومائتين في زمن المستعين بالله بالحجاز وهو شاب له عشرون سنة، وتبعه خلق كثير من المتشيعة والديلم, فعاث في الحرمين وقتل من الحجاج بعرفة وسلب ونهب، ولقي الناس منه عنتا إلى أن هلك هو وأصحابه بالطاعون في السنة التالية من خروجه.


كان سببها أن الأتراك وثبوا بالوزير عيسى بن فرخان شاه، فضربوه، وأخذوا دابته، واجتمعت المغاربة مع محمد بن راشد، ونصر بن سعد، وغلبوا الأتراك على الجوسق، وأخرجوهم منه، وقالوا لهم: كل يوم تقتلون خليفة، وتخلعون آخر, وتقتلون وزيرا وتثبتون آخر، وصار الجوسق وبيت المال في أيدي المغاربة، وأخذوا الدواب التي كان تركها الأتراك، فاجتمع الأتراك وأرسلوا إلى من بالكرخ والدور منهم، فاجتمعوا وتلاقوا هم والمغاربة، وأعان الغوغاء والشاكرية المغاربة، فضعف الأتراك وانقادوا، فأصلح جعفر بن عبد الواحد بينهم، على ألا يحدثوا شيئا، ويكون في كل موضع يكون فيه رجل من الفريقين يكون فيه رجل من الفريق الآخر، فمكثوا مدة مديدة، ثم اجتمع الأتراك وقالوا: نطلب هذين الرأسين- يعنون محمد بن راشد ونصر بن سعيد- فإن ظفرنا بهما فلا ينطق أحد.

فبلغهما خبر اجتماع الأتراك عليهما، فخرجا إلى منزل محمد بن عزون؛ ليكونا عنده حتى يسكن الأتراك، ثم يرجعا إلى جمعهما، فغمز ابن عزون بهما إلى الأتراك، فأخذوهما فقتلوهما فبلغ ذلك المعتز، فأراد قتل ابن عزون، فكلم فيه فنفاه إلى بغداد.


أرسل العلاء بن أحمد- عامل أرمينية- إلى المؤيد بخمسة آلاف دينار ليصلح بها أمره، فبعث عيسى بن فرخانشاه إليها فأخذها, فأغرى المؤيد الأتراك بعيسى وخالفهم المغاربة، فبعث المعتز إلى المؤيد وأبي أحمد، فأخذهما وحبسهما وقيد المؤيد، وأدر العطاء للأتراك والمغاربة.

وقيل: إنه ضربه أربعين مقرعة، وخلعه بسامراء وأخذ خطه بخلع نفسه.


هو المؤيد إبراهيم بن جعفر المتوكل على الله، أحد ولاة العهد الثلاثة بعد الخليفة المتوكل: وهم المنتصر بالله، والمعتز بالله، والمؤيد، تم خلعه من ولاية العهد مرتين؛ الأولى: في عهد أخيه المنتصر؛ حيث قام بخلعه مع المعتز بضغط من قادة الأتراك, والثانية: على يد أخيه المعتز بالله؛ حيث تم إجباره على خلع نفسه من ولاية العهد، ومن ثم تم قتله في ظروف غامضة, وكانت امرأة من نساء الأتراك قد جاءت إلى محمد بن راشد المغربي فأخبرته أن الأتراك يريدون إخراج إبراهيم المؤيد من الحبس، وركب محمد بن راشد إلى المعتز فأعلمه ذلك، فدعا بموسى بن بغا فسأله فأنكر، وقال: يا أمير المؤمنين إنما أرادوا أن يخرجوا أبا أحمد بن المتوكل لأنسهم به، وأما المؤيد فلا، فلما كان يوم الخميس لثمان بقين من رجب دعا المعتز القضاة والفقهاء والشهود والوجوه، فأخرج إليهم إبراهيم المؤيد ميتا لا أثر به ولا جرح، وحمل إلى أمه على حمار، وحمل معه كفن وحنوط، وأمر بدفنه، وحول أبو أحمد إلى الحجرة التي كان فيها المؤيد، فيقال غطي على أنفه فمات، وقيل: أقعد في الثلج ووضع على رأسه، وقيل في سبب موته أشياء أخرى.


هو المستعين بالله أبو العباس أحمد بن المعتصم بالله محمد بن الرشيد العباسي، ولد سنة إحدى وعشرين ومئتين, وأمه أم ولد، اسمها مخارق, وكان ربعة، خفيف العارضين، وكان مليحا أبيض، بوجهه أثر جدري، وكان يلثغ في السين نحو الثاء، بايع له الأتراك بالخلافة بعد المنتصر، فتسلطوا عليه وقهروه، فلم يكن له من الأمر شيء، فانتقل من سامرا إلى بغداد مغضبا, جرت عدة وقائع بينه وبين أخيه المعتز، فلما اشتد البلاء على الناس في بغداد  تخلى ابن طاهر عن المستعين، وكاتب المعتز، ثم سعى في الصلح على خلع المستعين، فخلع نفسه على شروط مؤكدة في أول سنة 252ه، ثم أنفذوه إلى واسط، فاعتقل تسعة أشهر، ثم أحضر إلى سامرا، فقتلوه بقادسية سامرا, وكان مسرفا في تبذير الخزائن والذخائر.


اجتمع الشاكرية وأصحاب الفروض إلى دار محمد بن عبدالله بن طاهر أمير العراق يطلبون أرزاقهم، فكتب إلى أمير المؤمنين بذلك، فكتب الخليفة في الجواب: إن كنت تريد الجند لنفسك فأعطهم أرزاقهم، وإن كنت تريدهم لنا فلا حاجة لنا فيهم؛ فشغبوا عليه، وأخرج لهم ألفي دينار، ففرقت فيهم فسكتوا، ثم اجتمعوا مرة أخرى بالسلاح والأعلام والطبول، وجمع محمد أصحابه في داره, واجتمع إلى أولئك (المشغبين) خلق كثير، وكان رئيسهم أبو القاسم عبدون بن الموفق، وكان من نواب عبيدالله بن يحيى بن خاقان، فحثهم على طلب أرزاقهم، فحصل بينهم وبين أصحاب محمد قتال، وظهروا على أصحابه، ولما رأى ابن طاهر أن الجند قد ظهروا على أصحابه أمر بالحوانيت التي على باب الجسر أن تحرق، فاحترق للتجار متاع كثير، فحالت النار بين الفريقين، ورجع الجند إلى معسكرهم, ثم إن ابن طاهر أتاه في بعض الأيام رجلان من الجند، فدلاه على عورة القوم، فأمر لهما بمئتي دينار، وأمر الشاه بن ميكال وغيره من القواد في جماعة بالمسير إليهم، فسار إلى تلك الناحية، وكان أبو القاسم، وابن الخليل- وهما المقدمان على الجند- قد خافا مضي ذينك الرجلين، وقد تفرق الناس عنهما، فسار كل واحد منهما إلى ناحية، وأما ابن الخليل فإنه لقي الشاه بن ميكال ومن معه، فصاح بهم، وصاح أصحاب محمد، وصار في وسطهم، فقتل، وأما أبو القاسم فإنه اختفى فدل عليه، فأخذ وحمل إلى ابن طاهر، وتفرق الجند من باب حرب، ورجعوا منازلهم، وقيد أبو القاسم وضرب ضربا مبرحا فمات منه.


قرر المعتز قتل المستعين، فكتب إلى محمد بن عبد الله بن طاهر أن يسلمه إلى سيما الخادم، وكتب محمد في ذلك إلى الموكلين به بواسط فقتلوه، ثم جاؤوا برأسه والمعتز يلعب الشطرنج، فقيل: هذا رأس المخلوع، فقال: ضعوه هنالك، ثم فرغ من لعبه ودعا به فنظر إليه، ثم أمر بدفنه.